عاصمة الثقافة الأوروبية 2025: مدينتان.. مصير واحد
- تاريخ النشر: الأربعاء، 12 فبراير 2025

للمرة الأولى، يحمل لقب "عاصمة الثقافة الأوروبية" طابعًا عابرًا للحدود، حيث تتشارك مدينتا نوفا غوريتسا في سلوفينيا وغوريزيا في إيطاليا هذا الشرف لعام 2025. لم يكن الأمر مجرد اختيار رمزي، بل انعكاسًا لتاريخ معقد جمع المدينتين، قبل أن تفصلهما معاهدة باريس عام 1947، لتصبحا جزءًا من قصتين مختلفتين سياسيًا، ولكنهما ظلتا مرتبطتين ثقافيًا واجتماعيًا.
ذكريات من مدينة مقسّمة
تتذكر المخرجة الوثائقية أنيا ميدفيد كيف كانت جدتها تعيش ألم الانفصال عن عائلتها، بعدما قسّمت الحرب العالمية الثانية مدينتها غوريزيا بين إيطاليا ويوغوسلافيا. لعقود، ظلت الأسلاك الشائكة تفصل السكان، لكن مع انضمام سلوفينيا إلى الاتحاد الأوروبي في عام 2004 وفضاء شنغن لاحقًا، أزيلت الحدود وأعيدت اللحمة بين المدينتين.
تقول ميدفيد إن التجربة التي مرت بها جدتها مختلفة تمامًا عن تلك التي عاشتها هي، فقد تمكنت في طفولتها من عبور الحدود بسهولة أكبر، بل وكانت تذهب إلى إيطاليا بالدراجة لتشعر بشيء من الحرية، رغم أن المسافة لم تكن سوى بضعة كيلومترات.
إرث تاريخي وجراح لم تندمل
لم يكن تقسيم 1947 مجرد قرار سياسي، بل شكل واقعًا جديدًا لسكان المنطقة. فقد بنت السلطات اليوغوسلافية مدينة نوفا غوريتسا على الجانب الشرقي، كرمز لقوة الشيوعية، بينما بقيت غوريزيا على النمط الأوروبي التقليدي. وبينما كان يفصل السكان خط سكة حديد وحدائق وساحات مقسّمة، لم تتمكن العائلات من التواصل بحرية إلا بعد تخفيف القيود في الستينيات.
قضت ميدفيد حياتها في توثيق هذا الإرث، معتبرةً أن هذه المدينة المزدوجة تشكل "كنزًا من المعلومات والجروح التي خلفها التاريخ". واليوم، مع اختيار المدينتين عاصمةً للثقافة، تأتي هذه الفرصة لاستعادة الماضي ليس فقط من أجل الذكرى، ولكن من أجل بناء مستقبل بلا حواجز.
"بلا حدود": شعار الحدث الثقافي
تحت شعار "بلا حدود"، تنطلق الفعاليات الثقافية السبت، بمشاركة أكثر من 400 حدث ثقافي، تشمل معارض فنية، وعروض مسرحية، ومؤتمرات تاريخية. تهدف هذه الأنشطة إلى إعادة تعريف العلاقة بين المدينتين وإزالة الحواجز الذهنية التي خلفتها عقود من الانفصال.
تمثل غوريزيا وجهًا لتاريخ يمتد لأكثر من ألف عام، بشوارعها المرصوفة ومبانيها ذات الطراز الأوروبي الكلاسيكي، بينما تتميز نوفا غوريتسا بتصميمها الحداثي، الذي يعكس حقبة الاشتراكية. لكن التحولات الاقتصادية والديموغرافية غيرت مصير المدينتين، حيث أصبحت نوفا غوريتسا مركزًا ثقافيًا وحيويًا، بينما شهدت غوريزيا تراجعًا في عدد سكانها، الذي انخفض إلى النصف خلال الثلاثين عامًا الماضية.
مدينتان.. مصير واحد
يرى الناشر الإيطالي أندريا بيلافيته أن المدينتين تشبهان "أختين متناقضتين، لكن عبر التقارب يمكن أن تصبحا نموذجًا للوحدة الأوروبية". فبعد عقود من العداء، حلت مكانه شراكات ثقافية ومجتمعية متزايدة، وربما في المستقبل لن يبقى سوى "الجدار في الأذهان"، كما يقول بيلافيته.
كنوز ثقافية مخفية
توفر فعاليات عاصمة الثقافة الأوروبية فرصة لاكتشاف كنوز تاريخية غير معروفة، مثل قبر الملك شارل العاشر، آخر ملوك فرنسا من سلالة بوربون، المدفون في دير كوستانييفيتسا في نوفا غوريتسا. هذا المكان، الذي كان يُعرف بـ"نيس هابسبورغ"، شهد آخر أيام الملك المنفي قبل وفاته عام 1836.
تشير أمينة المكتبة ميريام بريسيلي إلى النافذة التي كان الملك يرى منها العالم للمرة الأخيرة، وتقول بفخر: "نحن السلوفينيون لم يكن لدينا ملك، لذا فإن شارل العاشر هو الملك الوحيد المدفون على أرضنا".
التاريخ بلا قوالب نمطية
ترى المخرجة أنيا ميدفيد أن هذا الحدث يمثل "مفارقة حدودية"، متسائلةً بسخرية: "من كان ليتصور أن ملكًا فرنسيًّا سيُدفن في نوفا غوريتسا، المدينة الاشتراكية؟". وتؤكد أن هذا دليل على أن "التاريخ لا يمكن أن يُقرأ من خلال القوالب النمطية، بل يجب فهمه عبر تداخل الثقافات والتجارب الإنسانية المشتركة".
ختامًا: رسالة إلى أوروبا
يحمل اختيار نوفا غوريتسا وغوريزيا كعاصمة للثقافة الأوروبية رسالة قوية لأوروبا والعالم: أن الحروب والانقسامات لا تقدم حلولًا دائمة، وأن الثقافة والتعاون هما السبيل إلى تجاوز الماضي وبناء مستقبل مشترك.