صممت بعهد الخديوي إسماعيل وانتحر صانعها: قصة أسدي قصر النيل
تعتبر تماثيل أسود قصر النيل جزءاً لا يتجزأ من تاريخ مصر وتراثها، إذ تقف شامخة على جانبي جسر قصر النيل، لتكون شاهدة على حقبة هامة من التحولات السياسية والاقتصادية في البلاد. هذه التماثيل ليست مجرد زينة عمرانية، بل تحمل في طياتها حكايات متشابكة من الفن والسلطة والحزن، بدءاً من تصميمها على يد الفنان الفرنسي الشهير هنري جاكمار، مروراً بنقلها من فرنسا إلى مصر، وانتهاءً بروايات غامضة عن مصير النحات الذي صنعها.
تصميم أسود قصر النيل في ظل حكم الخديوي إسماعيل
كان مشروع جسر قصر النيل جزءاً من رؤية الخديوي إسماعيل لتحويل القاهرة إلى مدينة عصرية على غرار المدن الأوروبية. أراد الخديوي أن يكون الجسر رابطاً حضارياً بين وسط القاهرة وضفاف النيل الغربية، فقرر أن يُزيَّن بأربعة تماثيل ضخمة لأسود، تعكس الهيبة والفخامة. وكلف النحات الفرنسي هنري جاكمار، الذي كان حينها أحد أبرز فناني النحت في أوروبا، بتصميم هذه التماثيل.
فيديو ذات صلة
This browser does not support the video element.
لم يكن الغرض الأصلي من التماثيل أن توضع على جسر قصر النيل؛ إذ كان الخديوي إسماعيل ينوي وضعها على بوابات حديقة الحيوانات في الجيزة، لكن مع انتهاء العمل عليها في فرنسا ونقلها إلى مصر، تزامنت الأحداث مع عزل الخديوي إسماعيل عن الحكم في عام 1879، بعد ضغوط سياسية من إنجلترا. وهكذا، جاء ابنه الخديوي توفيق إلى العرش، وشهدت التماثيل تغييراً في مصيرها، ليتم تثبيتها على جانبي جسر قصر النيل الجديد بدلاً من حديقة الحيوان.
نقل التماثيل من فرنسا إلى مصر: رحلة في ظل التغيرات السياسية
بعد أن أتم جاكمار تصميم الأسود، تم شحنها من فرنسا إلى مصر في خطوة تتماشى مع المشاريع الضخمة التي أراد الخديوي إسماعيل تنفيذها. كانت التماثيل تعبيراً عن الفن الأوروبي الذي أراد إسماعيل إدخاله ضمن مشروعاته التحديثية في مصر، لكنّ وصول التماثيل تزامن مع تغيرات درامية في السياسة المصرية. فرحيل إسماعيل عن الحكم تسبب في تأجيل بعض مشاريعه، وتحوّل مصير التماثيل من بوابات حديقة الحيوان إلى جسر قصر النيل، ليكون وجودها هناك رمزاً مستداماً رغم تقلبات السياسة.
الأسود بلا شوارب: أسطورة انتحار النحات جاكمار
من بين أكثر الروايات تداولاً في مصر هي القصة التي تربط بين تصميم تماثيل الأسود وانتحار هنري جاكمار. يُقال إن جاكمار كان حاضراً في احتفال تدشين الجسر حين سأله طفل صغير: "هل هناك أسود بلا شنب؟"، في إشارة إلى أن الأسود التي صممها لم تتضمن شوارب في وجوهها. يُروى أن هذا السؤال أصاب جاكمار بصدمة نفسية شديدة، إذ شعر أنه ارتكب خطأً فادحاً لا يليق بفنان عالمي بحجمه، ما دفعه للإقدام على الانتحار في لحظة يأس.
رغم انتشار هذه القصة بين المصريين، إلا أن صحتها لم تُؤكد من مصادر موثوقة. ومع ذلك، تبقى الحكاية جزءاً من التراث الشعبي المحيط بجسر قصر النيل، ويستمر ذكرها باعتبارها دليلاً على تعلق المصريين بأدق تفاصيل معالمهم، وتقديرهم للفن، حتى لو كان هناك جانب من الأسطورة في الحكايات المتداولة.
تماثيل أسود قصر النيل ليست مجرد منحوتات حجرية صامتة، بل هي رمز لفترة مهمة في تاريخ مصر، عاكسة لمزيج من الطموحات السياسية والفنية. ورغم تغير الحكام والسياسات، ظلت هذه التماثيل قائمة، لتصبح مع مرور الزمن جزءاً من الهوية البصرية للقاهرة. وتبقى الأساطير المحيطة بها، سواء أكانت حقيقية أم لا، شاهداً على عمق التفاعل بين الفن والتاريخ في وجدان المصريين.