حدود حرية الإبداع بين الصدق التاريخي والإلهام الفني

  • بواسطة: s.beghoura تاريخ النشر: الأربعاء، 31 يناير 2024

حدود حرية الإبداع بين الصدق التاريخي والإلهام الفني

مقالات ذات صلة
مجموعة صور تكشف إبداع فن الشوارع حول العالم
إنطلاق معرض فن البحرين عبر الحدود .. مارس 2019
استكشاف تاريخ الفن والثقافة: متاحف فينيسيا وجواهرها الفنية

لكل حضارة صور تظهر ثم تختفي، وأضواء تبدو ثم تتلاشى،والتاريخ هو سرد لحوادث الماضي من المفروض أن يكون بلغة واضحة المعنى وكلام مفهوم لا غموض فيه، ولإثبات صحة أحداث الماضي توجد مراجع تشهد عليها وهي الفنون الجميلة والآثار التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالزمن والبيئة والقوم الذين تنتسب إليهم، ودراسة تاريخ الفن في شتى العصور وسيلة إلى فهم الإنسانية وتفسير ما في حياتها من غموض، وهو يرتبط بتاريخ سياسة الدول، لذلك يستمد الفن قوته وحيويته من نهضة الشعب بكل ما تقوم عليه هذه النهضة من ركائز كمعتقدات دينية وعقائد سياسية وأسس اجتماعية تضيء للشعب طريقه، ويشكل التاريخ مادة مهمة بالنسبة لأي فنان أو أديب مبدع  والفن يغترف موضوعاته من ينبوع التاريخ ويرتوي من تفاعله مع الواقع المعاش ،والفنان أو الأديب ليس مؤرخاً مكلفاً بتوثيق الحقيقة ولكنه يستعمل الحقيقة التاريخية كوسيلة للتعبير عن أفكاره وآرائه وتصوراته، وإذا كان تحقيق الصدق التاريخي هو غاية المؤرخ، فإن صدق الإلهام الفني هو أهم شيء بالنسبة للمبدع.

فيديو ذات صلة

This browser does not support the video element.

وقد يتم من أجل ذلك غض النظر عن قضية الالتزام بالحقيقة كلها، فالفنان حر في نظرته للتاريخ ومن حقه أن يفسر الشخصيات والحوادث كما يشاء بما يخدم تجسيد رؤيته ويحقق غايته الإبداعية ، ولكن مسألة الإيمان بحرية المبدع لا تعفيه من تحمل المسؤولية تجاه فنه فالحرية لا تعني العبث بطبيعة الوقائع أو التحامل في تفسير الأحداث أو تزوير حقائق التاريخ ،بل تعني الالتزام بقيم الحق والخير والجمال. إذاً الفنان أو الكاتب لا يهدف من وراء أعماله أن يكون مؤرخاً إنما هو يوظف التاريخ ويعتمد على التخيل الذي يرفع العمل الفني أو الروائي إلى عمل إبداعي.

حرية الإبداع

العالم لا يتكون من أشياء ثابتة أو موضوعات جامدة ، وإنما يضم أحداثا متغيرة تبدأ وتنتهي في الزمان، ومنها الكيانات النفسية المتحولة فهي لا تلبث على حال ، وقد يتجاوز صدق الخبر مستوى العلاقة بين الكلام والواقع إلى توجيه العلاقة إلى الذات ، أي أن صدق الخبر هو في مدى مطابقته لاعتقاد المخبر به ، وهذا يحيلنا إلى فرضية الصواب والخطأ ، والخبر الذي يطابق الواقع خبر صائب ولكن ليس دائماً صادق ، ولا يكون كذلك إلا إذا عندما يطابق اعتقاد المتكلم ، وإذا كانت كثرة الرواة ليست معيارا للحق وليست عذرا لأحد ،وان من أساليب المؤامرات التاريخية أن تكون سرية ومخفية وتحاك في الظلام والأهم لدى واضعيها أن تبقى غير معلنة ، فإنها تشكل بذلك اختزالاً تاريخياً يحدث شللا واستكانة، لذلك يجد المبدع الفني نفسه واقفا أمام ذاكرة مجروحة ناتجة عن السجالات السياسية عندما تلونت بأمور تاريخية وسيكون عليه أن يحولها بفنه إلى وعي سياسي واجتماعي وحينها تتولد لديه الجرأة الكافية لاكتشاف الوجه الخفي للتاريخ من خلال إبداعه الذي يبدأ من حرية اللحظة التي تمثل الخيال وهو من مقومات النجاح وعوامل التميز والإبداع التي تمنح الإضافة  للعمل الفني فذلك سيمثل وقفة شجاعة صادقة أمام التاريخ لتجديد العزم.

دور الكاتب والمصور في التاريخ

وعندما يتوخى الفنان الصدق في عمله لا يغفل أهمية التفريق بين لغة المواقف ولغة السياسة، فالموقف علامة فارقة في الزمن لا تحتكم إلا للمبادئ السياسة، حيث الممكن أصبح فناً يبرر النفاق كما يبرر الإيمان والمواقف الاستثنائية في التاريخ تتطلب حكمة وشجاعة للإقدام عليها، فلكل أمة أزمة ومقدسات تدافع عنها وتلتف حولها ، ولحظات التاريخ المعقدة التي لن يقوى على ضبط توازنها لصالح التقدم والسلام إلا رجل أعظم بأساً من الشعور بالظلم وأقوى إرادة من الزهو بالانتصار تحرك خيال الفنان الملتزم بقضايا أمته والمشغول بهموم شعبه ، وبين الأمل والوجع تعزف ريشة الفنان لوحة فنية تتردد أنغامها على محبي ريشته بتوهجها المضيء المليء بالخيال،ولكن يضعف إبداع الفنان عندما يسود بؤس النخب وقحط الفكر وتنتشر المجازر السياسية داخل السلطة كنتيجة لحرب الزعامات والمعارضات والانشقاقات التي تعكس الأداء الهزيل.

ولكن الفن التشكيلي في ذلك ليس مثل الشعر الشعبي مثلا الذي يعد في حقيقته جزءاً مهماً من الذاكرة الشعبية ومقوما أساسيا من مقومات الشخصية الوطنية ومرآة عاكسة وصادقة لواقع المجتمعات بل ووثيقة تاريخية للمسار الوطني ، فالفنان الحر لا ينساق إلى مفهوم الجاذبية السياسية ولا إلى من قد يسيرون مع التيار ضد التيار نفسه بل أن إبداعه الفني هو  امتداد بحثي في عوالم داكنة يجوبها بخياله الخصب المستقل ليستلهم المعاني ويصوغها صوراً ورموزاً بكل ما تحمله من دلالة تاريخية وحضارية وإستراتيجية قوية في ماضي الأمة وحاضرها، وإذ يشتمل حديث الفنون على السرد التاريخي وتعليل العوامل التي أدت إلى نهضة ما فتاريخ الفنون هو علم الحياة وميزانها الدقيق، ومنه يتبين لنا أن الفن ليس مرآة الحقيقة فحسب بل هو الحقيقة المرئية من خلال النفس الشفافة والشعور الرقيق والإحساس المرهف والعواطف الصادقة في شعورها بالألم أو السرور، والفنان هو من يستطيع أن يصوغ الحقيقة في قالب من عواطفه وإحساساته البشرية ، فهي بالنسبة له مصدر إلهام فعلي وهو لا يتردد حين تصير الأشكال عائقا أمام إظهار المضمون الحقيقي الذي تحجبه من تحطيمها.

ونفسه الأمر ينصرف إلى دور الأغنية الملتزمة في التنشئة الاجتماعية فالحقيقة أنها تلعب دور مكمل لدور الأسرة والمدرسة وتقوم بعمل نضالي وتدافع عن قضية اجتماعية أو سياسية أو إنسانية تتطلب في الأساس من الفنان قدرا كبيرا من الالتزام بالموقف الذي اختاره فالأغنية تساب الأفكار العميقة والحيوية الملتزمة بطبيعتها تستدعي هذا الالتزام لأن الأغنية الملتزمة تحمل في مضمونها قيما أخلاقية ومبادئ.

الذكريات والإلهام الفني

كثير ما تداعب الحكايات الذاكرة لدى المؤرخ ولدى الفنان، وأن تحقيق معايشة الأحداث يتم عند اكتساب الأفكار العميقة والحيوية حولها ، وهنا تكمن قيمة اللحظة التي يستحيل القول أن مدتها تكون معلومة مسبقا أو إنها ثابتة دائماً، لأنه يصعب تحديد مداها الزمني بكل دقة ، فهي قد تمثل بضع دقائق أو ربما العشرات منها، وفي حالات معقدة تسير الأعمال بإيقاع بطيء وطويل قد يتطلبه الحذر ويقتضيه التريث ويفرضه التمهل لتجاوز عواقب التسرع ونتائج عدم التبصر، أو قد لا ينبغي لها أن تتجاوز بضع ثوان معدودات في أمور أخري تتطلب أصلاً الأداء السريع الذي يتسم بالوتيرة المتصاعدة كشرط أساسي لنجاحها بين التأويلات المتنمرة والتلاعبات المتضاربة والعداءات المستأذنة  تكمن المؤامرات الماكرة وتعشش الاحتواءات المتناقضة التي لا يطيق صاحبها صبرا لينتهي من النسج الدقيق لخيوطها إلى أن يرى سهامه قد نفذت بينما سيدوم لاحقا التفكير العميق في ملامحها وقتا وسيكون حينها من الصواب الحكم على من يقوم بهذه المهمة بالمهارة الفائقة إذا لم يتطلب منه تنفيذها سوى لحظة وهي ما تعرف بالضربة الخاطفة التي بقدر ما تتمتع بعناصر المفاجأة من القوة والسرعة بقدر ما تكبر فرص النجاح، وهي ليست بالضرورة  ضربة مادية كعمل عسكري أو إجراء أمني محدد بل قد تعني أيضا المبادرة بمشروع سياسي معين أو المبادرة بعمل قانوني ذو طبيعة وقائية، أو قد يكون بعمل إبداعي ثقافي أو فكري لدحض افتراءات وتفنيد أكاذيب مهدمة أو إجهاض أفكار مضللة ومحاربة الميول المتطرفة بهدم أساسها الفكري، ومن هنا تكمن أهمية تسجيل اللحظة لدى المؤرخ ولدى الفنان.

  • المحتوى الذي تستمتع به هنا يمثل رأي المساهم وليس بالضرورة رأي الناشر. يحتفظ الناشر بالحق في عدم نشر المحتوى.

    الكاتب s.beghoura

    كاتبة صحفية في السياسة والمجتمع والثقافة والأدب والإدارة والاقتصاد والتراث قاصة وشاعرة مهتمة بقضايا الإنسان والمجتمع

    هل لديكم شغف للكتابة وتريدون نشر محتواكم على منصة نشر معروفة؟ اضغطوا هنا وسجلوا الآن!

    انضموا إلينا مجاناً!