بيت الحكمة وقوة بغداد الفكرية
إن أوج ازدهار مدينة بغداد كان قبل 1200 عاماً، واستمر مدة 500 سنة، عندما كانت هذه المدينة تمثل العاصمة المزدهرة للحضارة الإسلامية. فكانت بغداد تتميز بكثرة المثقفين والعلماء، وهذه السمعة اكتسبتها في عهد بعض أشهر خلفائها مثل (الرشيد والمأمون والمعتضد والمكتفي). وباعتبارها واحدة من أكبر وأغنى مدن العالم في ذلك الوقت، كانت بغداد تمتلك ثروة تفوق بكثير المال ولا تقدر بثمن، ولأكثر من قرنين من الزمان كانت موطنًا لـ House of Wisdom وهي أكاديمية للمعرفة والعلوم، اجتذبت العقول من جميع أنحاء العالم، من الرياضيات وعلم الفلك والفلسفة والطب إلى علم الحيوان، وكانت هذه الأكاديمية مركزًا رئيسيًا للبحث والفكر والنقاش في الحضارة الإسلامية.
فيديو ذات صلة
This browser does not support the video element.
هيا نتعرف على أكاديمية بيت الحكمة العريقة.
بناء بيت الحكمة
اهتم أشهر الخلفاء في بغداد، بما في ذلك الرشيد والمأمون، بجمع الأعمال العلمية العالمية الرائدة في شتى بقاع الأرض، بالإضافة إلى جمع الكتب من الشرق والغرب، فقاموا بجمع علماء من مختلف أركان الأراضي الإسلامية لإنشاء واحدة من أعظم الأكاديميات الفكرية في التاريخ.
فتم بناء بيت الحكمة في البداية من قبل الخليفة هارون الرشيد (786 - 809 م) كمكتبة رائعة وسميت خزانة الحكمة (مكتبة الحكمة) وقد تضمنت مخطوطات وكتب جمعها والده وجده حول مواضيع مختلفة في الفنون والعلوم وبلغات مختلفة. لذلك تعتبر أكاديمية بيت الحكمة أو خزائن الحكمة هيَ أول دار علمية أقيمت في تاريخ الحضارة الإسلامية، أُسِّسَت في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد، واتُّخذَ من بغداد مقراً لها. كما كان الخليفة أبو جعفر المنصور مهتماً بعلوم الحكمة، فترجمت له كتب في الطب والنجوم والهندسة والآداب، فقام بتخصيص خزانات للكتب في قصره لحفظها حتى ضاق قصره عنها.
وبعد ثلاثة عقود، نمت هذه المكتبة بشكل كبير لدرجة أن ابن هارون الرشيد الخليفة المأمون بنى امتدادات للمبنى الأصلي وحوله إلى أكاديمية كبيرة وأصبحت تضم فروعًا مختلفة من العلوم المعرفة. وفي وقت لاحق أضاف العديد من مراكز الدراسة الأخرى، للسماح لمزيد من العلماء بمتابعة أبحاثهم، كما أقام فيها مرصدًا في عام 829. وقد ساهم بيت الحكمة في إنقاذ التراث العالمي من الفناء والضياع بجلبه كنوز المعرفة من أنحاء العالم وترجمتها ثم حفظها ونشرها. كما أدخل نظام جديد لتنظيم المكتبات وهو ترتيب الكتب بناءً على صنف الكتاب. لما اضطربت أحوال الخلافة بعد زمن المأمون، ساهمت مؤلفات وعلماء بيت الحكمة في نشأة مراكز ومدارس علمية جديدة في كل من خراسان والري وأصبهان وأذربيجان وما وراء النهر ومصر والشام والأندلس.
شاهد أيضاً: العصر الذهبي للغة العربية
أبرز علماء بيت الحكمة
في بيت الحكمة، كان المترجمون والعلماء والكتبة والمؤلفون ورجال الأدب والكتاب والمؤلفون والناسخون وغيرهم يجتمعون كل يوم للترجمة والقراءة والكتابة والخطاب والحوار والنقاش. وتمت ترجمة العديد من المخطوطات والكتب في مختلف الموضوعات العلمية والمفاهيم والأفكار الفلسفية وبلغات مختلفة.
وتوافد الناس من جميع أنحاء الأرض على بيت الحكمة، ذكورًا وإناثًا من مختلف الأديان والأعراق، ومن بين الشخصيات البارزة في الأكاديمية كان الكندي (أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي علامة عربي مسلم، برع في الفلك والفلسفة والكيمياء والفيزياء والطب والرياضيات والموسيقى وعلم النفس والمنطق الذي كان يعرف بعلم الكلام. ويعد الكندي أول الفلاسفة المتجولين المسلمين، كما اشتهر بجهوده في تعريف العرب والمسلمين بالفلسفة اليونانية القديمة والهلنستية)، وهونيان بن إسحاق الذي ترجم كتب أبقراط (هو أبو زَيْد بن إسحاق العِبَادي المعروف بحُنَيْن بن إسحاق العِبَادي عالم ومترجم وعالم لغات وطبيب عربي، مسيحي نسطوري. أصله من الحيرة ولد عام 194 هـ / 810م، ولدَ لأب يشتغل بالصيدلة علمه اللغات. وهو مؤرخ ومترجم ويعد من كبار المترجمين في ذلك العصر، وكان يجيد بالإضافة للعربية السريانية والفارسية واليونانية. قام بترجمة أعمال جالينوس وأبقراط وأرسطو والعهد القديم من اليونانية، وقد حُفظت بعض ترجماته مثل أعمال جالينوس وغيره من الضياع).
ومن الأسماء الأخرى المرتبطة ببيت الحكمة نذكر، المنجم والفلكي بنو موسى بن شاكر، ويحيى بن أبي منصور المنجم المأموني، ومحمد بن موسى الخوارزمي. وسعيد بن هارون الكاتب، وثابت بن قرة وعمر بن فروخان الطبري (أبو حفص عمر بن الفرخان الطبري، هو منجّم ومعماري، في عام 800، ترجم ابن الفرخان الطبري النسخة الفهلوية من كتاب Pentateuch لدوروثيوس الصيدي إلى العربية، والتي اعتمد المنجمون الغربيون على ترجمتها اللاتينية، واعتبره ابن أبي أصيبعة مع حنين بن إسحق وثابت بن قرة والكندي حذّاق الترجمة من المسلمين.
شاهد أيضاً: بلدان الشرق الأوسط
اللغات في بيت الحكمة
كانت مدينة بغداد في القرن العاشر في زمن بيت الحكمة، تضم الكثير من المؤلفات بشتى اللغات، فقد تم التحدث وقراءة مجموعة واسعة من الكتب باللغات العربية والفارسية والآرامية والعبرية والسريانية واليونانية واللاتينية.
وعمل الخبراء باستمرار على ترجمة الكتب القديمة إلى اللغة العربية للسماح للعلماء بفهمها ومناقشتها والبناء عليها. ومن أشهر المترجمين يوحنا بن البطريق الترجمان (المترجم يونان بن البطريرك) الذي ترجم كتاب الحيوانات لأرسطو. وكذلك حنين بن اسحق.
كما أن الخليفة المأمون شجع المترجمين والعلماء على إضافة إلى المكتبة في بيت الحكمة من خلال دفع وزن كل كتاب مكتمل من الذهب.
شاهد أيضاً: أجمل مآذن المساجد
تقليد التعلم
تردد صدى نقل المعرفة الناجح وإنشاء مركز للتعلم في بغداد في العديد من المدن الأخرى عبر الحضارة الإسلامية. كما شجع إنشاء بيت الحكمة دول العالم الإسلامي نحو تأسيس مراكز علمية على غراره، فتم بناء دار الحكمة في القاهرة عام 1005 من قبل الخليفة الحكيم واستمرت لمدة 165 عامًا. كما أنشأت مدن أخرى في المحافظات الشرقية للحضارة الإسلامية بيت العلوم (دار العلم)، أو بشكل أكثر دقة بيوت المعرفة، في القرنين التاسع والعاشر ليحاكي ما كان في بغداد. ثم في القرن الثاني عشر، أصبحت توليدو في الأندلس (إسبانيا المسلمة) محور جهود ترجمة ضخمة أخرى ولكن هذه المرة من العربية إلى اللاتينية، وظهرت أعمال وترجمات عربية لنصوص يونانية قديمة مهمة، وتوافد علماء مسيحيون ويهود ومسلمون على المدينة لترجمة المعاهدات اليونانية والعربية القديمة إلى اللاتينية ثم إلى اللغات الأوروبية.